حمام المسخوطين (الدباغ)

مرسلة بواسطة مجلة المعرفة يوم الجمعة، 11 يوليو 2014 0 commentaires
كان يوما رائعا و هادئا ، فالشمس تبسط أشعتها على الحقول و النسيم العليل يغزو الأجواء ، والطبيعة تلقي بجمالها على الأراضي الشاسعة شرقي الجزائر ، فالجو ملائما تماما للقيام برحلات صيد في الغابات الشاسعة لمدينة قالمة التي لا طالما جذب مناخها أصنافا كثيرة من الحيوانات البرية للعيش تحت ظلالها.
و بين أشجار الغابات الصنوبرية ، أنطلق فارس على جواده شاقا طريقه نحو البرية في رحلة صيد ثمينة . كان يبدو على هذا الشاب ملامح القوة و البأس الشديد ، كما أن وسامته جعلته مميز بين أقرانه فكل فتاة من قبيلته تتمنى أن يكون من نصيبها ، نظرا لأنه يحظى بكل صفات الشجاعة و القوة إضافة إلى ذلك كونه محل ثقة و تقدير وسط شيوخ القبائل ، لكن هيهات فوراء هذا القناع وجه معاكس تمام لشخصه.



منطقة حمام المسخوطين في قالمة بالجزائر ..

لما حل المساء عاد فارسنا نحو القبيلة مسرعا على غير العادة حاملا طريدته فوق ظهر جواده مخالفا وجهته المعتادة إلى بيته نحو مقر سكن شيخ القبيلة . فعند وصوله نزل من على حصانه و أنزل صيده الذي كان غزالا ذهبي اللون فائق الجمال ، وطلب من المستشار أن يطلب له شيخ القبيلة في الحال ، فلقد كان من النادر مقابلة الشيخ في هذا الوقت المتأخر ، لكن مكانة هذا الفارس جعلته يحظى بغايته دون انتظار ، فأمر شيخ القبيلة بأن يسمحوا له بالمرور فورا .
فدخل فارسنا و ابتسامة كبيرة تعلو شفتاه ، وسأل الشيخ الفارس عن سبب قدومه في هذا الوقت و عن سر استعجاله بمقابلته ، متعجبا من الهدية فهو يعلم أن وراءها طلب عظيم ، فوقف الفارس متسمرا للحظات ثم أجابه بكلمة واحدة قاسية (( جئت لأكسر الأعراف)) ، فأنتفض الشيخ من مكانه و طلب من مستشاره الخروج و عدم السماح لأي كان بالدخول عليهما ، و أمسك بكتف الفارس ضاغطا بيده عليها سائلا إياه عن ما يقصد بكلامه هذا ، فضحك الفارس و أستمر في الضحك مستفزا و معلنا غطرسته على الشيخ و أجابه بأنه أتى إلى هنا ليحظى بموافقة الشيخ على الزواج من أخته (أي أخت الفارس) و أنه مستعجل و لن ينتظر الإجابة حتى الصباح لأنه يريدها حالا.
وقف الشيخ و هو يترنح قليلا و علت على وجهه ملامح الجدية و الغضب و أجابه بالنفي المطلق و أن يخرج حالا من أمامه فإن أراد الزواج فالقبيلة مملوءة بالحسناوات ، بل و عرض عليه أن يناسبه لكنه رفض .



حمام المسخوطين .. من اجمل المناطق السياحية ..

عاد الفارس مسرعا وعلامات الغضب تبدو عليه و قابل أخته التي كانت تبادره نفس الحب و أتفق معها على خطة سيبدأ بتنفيذها فجرا .
و ما كاد أن يطلع الصباح حتى خرج الفارس من مرقده راكبا جواده يدور بين الناس في القبيلة و يصيح معلنا أن هذه الليلة سيعلن قرانه على أخته و لن يهتم لكلام أي شخص ، و لن يكترث بأي أعراف و تقاليد ، بل من لم يوافق على هذا الزواج فليغلق فمه و يلزم داره ، هذا ما كان من كلام الفارس ، أما بقية الناس فقد انقسموا ما بين مؤيد و معارض .
و ما إن حل المساء حتى اجتمعت حشودا كبيرة من الناس الرافضين لهذا الزواج و حملوا أغراضهم وهموا بالرحيل و معهم شيخ تلك القبيلة ، و بقي أنصار قليلون لهذا الفارس و أغلبهم من المجرمين و شاركوه فرحة يومه ، بل و نصبوه مباشرة كزعيم عليهم .
وما هي إلى لحظات حتى ظهر ذلك الفارس وأخذ يخطب فيهم معلنا أن حفل الزفاف سيكون في مكان غريب نوعا ما ، فبدا الحضور مستغربين من قوله ، لكنه أزال عنهم ذلك الإبهام بإعلانه أن مقر عرسه سيكون حمام'الدباغ' ، وهو حمام القبيلة ذو الشعبية الكبيرة لأنهم يؤمنون بقدرة مياهه على منحهم القوة و الجمال و الشفاء من الأمراض .
وبعد انتهاء الفارس من كلامه أنصرف منتظرا حلول الليل فيما أخذ أنصاره بالهتاف فرحين بهذه الفكرة لأنها ستجمع الرجال و النساء في حمام واحد .
حل الظلام و أخذ الأنصار أماكنهم وسط الحمام و بدأ الصياح و الزغاريد و دقت الطبول معلنة عن بداية العرس ، وبدأ الرقص و الغناء و توسط الفارس الحضور ممسكا يد أخته التي تزوجها بدافع رغباته الشيطانية و حضي الشيطان بمكان معهم و انتشر الفساد في ذلك العرس ، فأخذ الزنا منهم كل مأخذ و كأنها إحدى طقوس عبدة الشيطان .
أستمر ذلك الحفل بشكل عادي إلى غاية الفجر ، ثم حدث شيء مفاجئ ...
لقد توقف العزف وانقطعت الزغاريد و عم المكان سكون غريب ... كل هذا حدث بلمح البصر ، فماذا حصل داخل ذلك الحمام ؟ .
لا أحد يعلم .. لأن جميع من بقوا من القبيلة كانوا مع الفارس في جوف الحمام . ثم مرت الأيام و الشهور و السنين ، إلى غاية أن قرر سكان تلك القبيلة الذين عارضوا فكرة الزواج وغادروا أراضيهم ، الرجوع إليها بعد أن سمعوا أنها خالية تماما من السكان .



بحسب الاسطورة فهذه الصخور هي اجساد بشرية متحجرة ..

فلما وصلوا تفحصوا المكان جيدا فوجدوه فارغا تماما ، فظنوا للوهلة الأولى أن ذاك الفارس المتغطرس قرر الرحيل هو و قومه ، لكن جميع ظنونهم ذهبت هباء بعد أن دخل أحد مالكي الحمام السابقين إليه و قرر إعادة ترميمه و تهيئته ، كانت الصدمة قد عقدت لسانه .. لقد كان منظرا غريبا جدا ، فالفارس المتغطرس و زوجته (أخته) و جميع الحضور في ذلك العرس كانوا قد تحولوا إلى تماثيل و منحوتات حجرية ، تسمروا في وضعهم الذي كانوا عليه و كأن الزمن توقف بهم . فأنتشر الخبر بين الناس و قرروا عدم الرجوع عن أعرافهم أبدا و نصبو الحمام كعبرة لكل من تخاله نفسه أن يتعدى على الأصول .
ومنذ ذلك الحين أصبح الحمام 'الدباغ' في قالمة شرقي الجزائر مقصد الآلاف من السياح الأجانب و المحليين لكي يعيشوا أجواء تلك الحادثة الأسطورية بعد أن اعتبروا أن ما حل بهم ما هو إلا عذاب وعقاب من الله على تصرفاتهم ، و أضيف إليه لقب حمام المسخوطين لاعتقادهم بأن الله أحل سخطه على أولئك الذين كانوا في العرس الفاجر .


القصة نوعا ما تعتبر أسطورية رغم أن التماثيل الحجرية لا تزال منصوبة في الحمام إلى يومنا هذا , لكن القدرات الأستشفائية لمياه ذلك الحمام تعتبر حقيقية فهو رمز أسطوري يحمل ورائه أحد أروع قصص التراث الجزائري على مر تاريخها .

........................................
عبد اللطيف حموتن
صفحتنا على الفيسبوك
https://www.facebook.com/majallat.alma3rifa

0 commentaires:

إرسال تعليق